الأوباش

عندما رمى الليل بجناحيه على المدينة ، كانت ضاحيتنا تدافع عن نفسها ببعض أعمدة الإنارة المشردة على طول الطريق الرئيسي .

وقفت ذلك المساء أتأمل فصول هذه المعركة غير المتكافئة وبدا أن المشهد يحظى بمتابعة أغلب سكان الحي حيث اجتمعوا في زواياه المختلفة ، يتسامرون حول إشكالية تعاقب الليل والنهار ولمحت عن بعد ، صالح يتخذ موقعا إستراتيجيا غير مألوف وعيناه تقدحان شرا وكأنه متأهب لشيء ما ، يبدو أنه سيتحالف مع أعمدة الإنارة ضد الظلام .

وفجأة دلفت إلى الزقاق سيارة فخمة مرسلة بضوء ساطع ، ساهم في تراجع بعض جنود الظلام إلى الأزقة الفرعية ، توقفت الشبح في مكانها المعتاد ونزل منها وبش محترم ودخل بسرعة إلى البيت المجاور ، في هذه اللحظة نهض صالح من مكانه وتوسط منتصف الطريق واتكأ على عمود إنارة مائل وصرخ في وجوهنا

- هل أعجبكم المشهد؟وهل ما زلتم تفضلون رؤية القمر؟

التزم الجميع بالصمت بما فيهم أنا ، لم يجرؤ أحدنا على التعقيب فنحن فئات بسيطة وحتى المثقفون لم يحركوا ساكنا

لأن المثقف بطبعه جبان ،وفيما كنا نتجرع مرارة الهزيمة للمرة الألف إذ بسيارة أخرى تكسر حاجز الصمت ، سعدنا

بذلك لأن صالح أطلق سراحنا من سجن نظراته وتأمل الزائر الجديد .

لاحظت بأن لوحة الترقيم مكتوبة بالطباشير ، قد يكون صاحبها معلما ، يا له من أتناج غبي ، لن يستطيع مربي

الأجيال شراء حتى عجلة هذه السيارة ، نزل الوبش السامي ومشى بخطوات ثابتة نحو الهدف وعندما وصل فتحت له إحداهن ثم نظرت إلينا بتأفف وأغلقت في وجوهنا الباب بقوة ، كان صالح هو المتأثر الوحيد بهذه اللفة السيئة .

نظرنا إلى بعضنا البعض وتوجهنا مرة واحدة نحو صالح الذي ظهرت عليه ملامح الارتياح

- يجب أن نحرق السيارات ثم نهجم عليهم ، هذا ما قاله وبش صعلوك

- ما تقوله هو التهور بعينه ، دعونا ندرس الأمر بروية وتأن وتريث ، هذا ما قاله أستاذ أدب عربي متقاعد

- نحن بحاجة إلى مواقف وليس تكوين جمل ، أضاف صالح

- نعم، هذا ما قلته أنا بكل صعوبة .

- يجب علينا أن نكتب عريضة إلى السلطات المختصة ونشعرها بما نحن فيه من مهانة وعار وأكيد سيجدون لنا حلا. أضاف الأستاذ :

علت على وجوههم علامات الاستحسان ، ما عدا واحد منهم عندما اقترب من الضوء عرفت بأنه وبش سام متقاعد ، حدق فينا مليا ثم قال :

- عجيبا أمركم إنكم تنتقدون أشياء ترغبون فيها ، من فيكم لا يرغب في قضاء سهرة حمراء في بيت هذه المرأة وبناتها ،دعوها تؤمن قوتها ، إنها تمارس أقدم مهنة في التاريخ.

- وحدك ترغب في الدخول إليها إنها خطر على أخلاقيات الحي.

- كلكم تتسللون إلى بيتها بعد منتصف الليل ، إنها منفعة كبرى لنا ، هذه الطريق والإنارة بفضل تدخلها لدى بعض

معارفها،ما انتظرناه سنوات تحقق في ثوان ، لاحظوا معي يا أخوتي إن إيجابياتها أكثر من سلبياتها ، فهي مكسب حضاري يجب الحفاظ عليه ، إنها بحق عاهرة محترمة .

- كفاك تشدقا ، كل أهل الحي يعرفون ماضيك ولم يبق لك سوى هذا اللسان السليط .

رد عليه صالح بكل نرفزة

- دعوكم منه ، إنه بقايا رجل مات منذ ألف قرن ، أعرف شخصا مهما ونزيها ، أقترح أن نذهب إليه ونعرض عليه مشكلتنا وسيجد لنا حلا صائبا وهذا بحكم علاقاته ونفوذه ، إنه صديق الطفولة ولن يخيب ظني .

- فكرة الحاج علي سديدة، من يذهب معنا غدا؟ سأل صالح رفع صاحب نظرية العاهرة المحترمة يده والتحقت به أنا بعد تردد كبير

- إذا اللقاء غدا على الساعة العاشرة صباحا بمقهى الحي وسنذهب نحن الأربعة إلى هذا الرجل النزيه.

قضيت تلك الليلة أفكر في مستقبل الحي ، ورأيت في ما يرى النائم أن منزل المرأة المشكل تحول إلى دار للثقافة وبأنني أبيع تذاكر الدخول للعرض الذي ستقوم به السيدة الفاضلة في حين كانت ابنتها بلباس محتشم توزع صكوك الغفران ، أما أفراد الحي فكانوا يشرفون على استقبال الأوباش الراقية.

نهضت متأخرا ذلك الصباح وأسرعت نحو صالح الذي وجدته بانتظاري رفقة الثنائي المتناقض، استأجرنا سيارة نقلتنا مباشرة إلى مقر حكومي هام .

لم يطل انتظارنا طويلا حيث جاءنا وبش الاستقبال وأعلمنا بان الرجل المهم مستعد لاستقبالنا ، وما أن وطأت أقدامنا

السجادة التقليدية حتى صعقت أنا وصالح في مكاننا في حين كان صاحب النظرية الغريبة مسرورا أما الحاج علي فلم

يلاحظ شيئا.

لم يكن الرجل المهم سوى أحد الأوباش السامية التي كانت تتردد على المنزل المشبوه .

 

عودة الى قائمة المنشورات

 

عودة إلى الصفحة الرئيسية