الانتحار الأخير

 

- الى أين سأل القابض؟

أدخل يده في معطفه البالي ودفع الدنانير الأخيرة التي بقيت عنده .

- قسنطينة ، فقط..

استغرب صالح لأن ما بقي معه لا يتعدى ثمن تذكرة الذهاب فقط، كل شيء محكم ومنسق إنه ذهاب بدون عودة ، رحلة الى العالم الآخر ، كانت الحافلة غاصة بالمسافرين ، تأمل صالح الركاب ،إنهم عينة من هذه الحياة ، شيوخ ،أطفال ، كهول ، نساء ، هذا مبتسم والآخر عبوس ، قد يوجد من ضمنهم راغب في الانتحار ، هذا شيء غير مستبعد ، لست أول من يقدم على الانتحار ، كثيرون رموا بأنفسهم من جسور قسنطينة، من كثرة المشاكل التي تعرض لها توصل الى قناعة مفادها ضرورة الانتحار ، كان بإمكانه تنفيد مشروعه في بلدته النائية، ولكن ليس هناك إلا وسائل الانتحار

الكلاسيكية، توجد مبان شاهقة ، مبيدات قاتلة ولكن ليس هذا ما يبحث عنه ، إنه يريد أن يدخل التاريخ ولو مرة

واحدة في حياته، قسنطينة هي المكان الأمثل للانتحار ، الجسور المعلقة أكذوبة صدقها الكثيرون ، إنها جسور

للأرواح المعلقة ، لم ينتبه إلا على يد القابض تربت على كتفه . أخيرا وجد نفسه يتجول في شوارع المدينة الضيقةالتي تصعد أحيانا وتنزل أحيانا أخرى ، هذه أزقة تكاد تبعث فيها الحياة ثمة شوارع يحبذ المرء التريث فيها وأخرى يسعى إلى الخروج منها بأسرع وقت ممكن ، تأمل صالح وجوه المارة ، اختلفت ألوانهم وطباعهم ، مشغولون بهذه الحياة ، أيحبونها لهذه الدرجة ، ينتحرون كل دقيقة عندما لا يجدون خبزا ولا سكنا، بل هم منتحروا وادي الرمال بعثت فيهم الحياة من جديد وعادوا ليعيشوا فوق الصخرة الكبيرة ، كل مشكل في هذه الحياة يتبعه انتحار معنوي والانتحار الأخير جسدي ، فرح صالح باكتشافه لهذه المعادلة الغريبة، وما إن تجاوز النفق المظلم حتى شعر بنسمات وادي الرمال تهب عليه محاولة تثبيطه عن مسعاه ، لكن أنى لها ذالك والقرار قد أتخد في بلدته ولم يبق غير التنفيذ .

هاهو الجسر المعلق فاتحا حباله يرقص نشوانا علي أنغام معزوفة الرياح الجنائزية، عندما وطأت أقدامه الجسر ، أحس برجفة غريبة وخيل إليه بأنه يسمع أصواتا من أعماق الوادي تناديه ، إنهم المنتحرون السابقون يهللون لأي منتحر جديد.

الأمر جد بسيط سوف أتظاهر بالتسكع فوق الجسر وعندما تحين الفرصة سألقي بنفسي وجسمي في هذه الهوة السحيقة ، اتخذ موقعه في منتصف الجسر، على بعد خطوات منه توقفت أم وطفلها لتتبادل الكلام مع إمرأة أخرى ، تأمل صالح الطفل الصغير ،ملامحه كلها براءة وتفاؤل ، نقل بصره للوادي بسرعة لكي يمنع تغلغل أي أمل الى أعماقه ، وفجأة انتبه الى سيارة تسير بسرعة جنونية ،في حين انشغلت الأم عن طفلها الذي توجه صوب الطريق وهنا وجد صالح نفسه ينطلق كالسهم لينقذه ووصل إليه في اللحظة الحاسمة ، تلقى سيلا من التشكرات من الأم وبعض المارة ، لم ينبس ببنت شفة وترك الجميع وأسرع بالخروج من الجسر وأدرك بأنه لا يزال هناك أمل والمستقبل مفتوح أمامه ، فالدافع الذي جعله ينقذ الآخرين ، سيحفزه بدون شك على مواجهة صعاب هذه الحياة ، وتأكد بأنه رمى بضعف إرادته في أعماق وادي الرمال .

عودة الى قائمة المنشورات

 

عودة إلى الصفحة الرئيسية